سورة المؤمنون - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} انتقالٌ إلى توبيخٍ آخر. والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ كالأُولى أي بل أيقولُون به جنَّةٌ أي جنونٌ مع أنَّه أرجحُ النَّاسِ عَقْلاً وأثقبهم ذِهْناً وأتقنُهم رأياً وأوفرُهم رزانةً ولقد رُوعي في هذه التَّوبيخاتِ الأربعةِ التي اثنانِ منها متعلِّقانِ بالقُرآنِ والباقيانِ به عليه السَّلامُ التَّرقِّي من الأدْنى إلى الأعلى حيثُ وُبِّخوا أولاً بعدمِ التَّدبرِ وذلك يتحقَّقُ مع كونِ القولِ غيرَ متعرِّضٍ له بوجهٍ من الوجوه ثمِّ وُبِّخوا بشيءٍ لو اتَّصف به القولُ لكان سبباً لعدمِ تصديقهم به ثمَّ وُبِّخوا بما يتعلَّق بالرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من عدم معرفتهم به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذلك يتحقَّق بعدمِ المعرفةِ بخيرٍ ولا شرَ ثمَّ بما لو كان فيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذلك لقدحَ في رسالتهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {بَلْ جَاءهُمْ بالحق} إضرابٌ عمَّا يدلُّ عليهِ ما سبقَ أي ليس الأمرُ كما زعمُوا في حقِّ القُرآنِ والرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بل جاءهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ أي الصِّدقِ الثَّابتِ الذي لا محيدَ عنه أصلاً ولا مدخلَ فيه للباطلِ بوجهٍ من الوجوهِ. {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ} من حيثُ هو حقٌّ أي حقَ كان لا لهذا الحقِّ فقط كما يُنبىء عنه الإظهارُ في موقع الإضمارِ {كارهون} لما في جبلتهم من الزَّيغِ والانحرافِ المناسبِ للباطلِ ولذلك كرهُوا هذا الحقَّ الأبلجَ وزاغُوا عن الطَّريقِ الأنهجِ. وتخصيصُ أكثرهم بهذا الوصفِ لا يقتضي إلاَّ عدمَ كراهةِ الباقين لكلِّ حقَ من الحقوقِ وذلك لا يُنافي كراهتهم لهذا الحقِّ المُبينِ فتأمَّل. وقيل تقييدُ الحُكمِ بالأكثرِ لأنَّ منهم من تركَ الإيمانَ استنكافاً من توبيخِ قومهِ أو لقلَّةِ فطنتهِ وعدمِ تفكُّرهِ لا لكراهته الحقَّ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ التَّعرضَ لعدمِ كراهةِ بعضهم للحقِّ مع اتِّفاقِ الكُلِّ على الكُفرِ به ممَّا لا يُساعدُه المقامُ أصلاً.
{وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أنَّ أهواءَهم الزَّائغة التي ما كرهوا الحقَّ إلا لعدم موافقته إيَّاها مقتضيةٌ للطَّامةِ أي لو كان ما كرهُوه من الحقِّ الذي مِن جُملتهِ ما جاء به عليه السَّلامُ موافقاً لأهوائِهم الباطلةِ {لَفَسَدَتِ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} وخرجتْ عن الصَّلاحِ والانتظامِ بالكليةِ لأنَّ مناطَ النِّظامِ ليس إلاَّ ذلكَ وفيه من تنويهِ شأنِ الحقِّ والتَّنبيهِ على سُموِّ مكانه ما لا يخفى، وأمَّا ما قيلَ لو اتَّبع الحقُّ الذي جاءَ به عليه السَّلامُ أهواءَهم وانقلبَ شِركاً لجاء اللَّهُ تعالى بالقيامةِ ولأهلكَ العالَم ولم يؤخِّرْ، ففيهِ أنَّه لا يُلائم فرضَ مجيئهِ عليه السَّلامُ به وكذا ما قيل لو كانَ في الواقعِ إلاهان لا يناسبُ المقامَ وأمَّا ما قيل لو اتَّبع الحقُّ أهواءَهم لخرجَ عن الإلهية فممَّا لا احتمالَ له أصلاً.
{بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ} انتقالٌ من تشنيعهم بكراهةِ الحقِّ الذي به يقومُ العالمُ إلى تشنيعهم بالإعراضِ عمَّا جُبلَ عليه كلُّ نفسٍ من الرَّغبةِ فيما فيه خيرُها والمرادُ بالذِّكرِ القرآنُ الذي هو فخرُهم وشرفهم حسبما ينطقُ به قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أي بل أتيناهُم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجبُ عليهم أنْ يقبلُوا عليه أكملَ إقبالٍ {فَهُمُ} بما فعلُوه من النُّكوصِ {عَن ذِكْرِهِمْ} أي فخرهم وشرفهم خاصَّةً {مُّعْرِضُونَ} لا عن غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُوجبُ الإقبالَ عليه والاعتناءَ بهِ.
وفي وضعِ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ مزيدُ تشنيعٍ لهم وتقريعٍ. والفاءُ لترتيب ما بعدَها من إعراضِهم عن ذكرِهم على ما قبلها من إيتاءَ ذكرِهم لا لترتيبِ الإعراضِ على الإيتاءِ مُطلقاً فإنَّ المستتبعَ لكونِ إعراضِهم إعراضاً عن ذكرِهم هو إيتاءُ ذكرِهم لا الإيتاءُ مُطلقاً، وفي إسنادِ الإتيانِ بالذِّكرِ إلى نُون العظمةِ بعد إسنادِه إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تنويهٌ لشأنِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتنبيهٌ على كونه بمثابةٍ عظيمةٍ منه عزَّ وجلَّ. وفي إيرادِ القُرآنِ الكريمِ عند نسبتهِ إليه تعالى بعُنوان الذِّكرِ من النُّكتةِ السِّريَّةِ والحكمةِ العبقريَّةِ ما لا يخفى فإنَّ التَّصريحَ بحقِّيتهِ المستلزمةِ لحقِّيةِ مَن جاء به هُو الذي يقتضيهِ مقامُ حكايةِ ما قاله المُبطلون في شأنه، وأمَّا التَّشريفُ فإنَّما يليقُ به تعالى لا سيَّما رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحدُ المشرَّفين. وقيل المرادُ بالذِّكرِ ما تمنَّوه بقولهم لو أنَّ عندنا ذِكراً من الأوَّلينَ. وقيل وعظهُم وأيَّد ذلكَ بأنَّه قرئ: {بذكراهُم}. والتَّشنيعُ على الأوَّلينَ أشدُّ فإنَّ الإعراضَ عن وعظهم ليسَ في مثابةِ إعراضهم عن شرفهم أو عن ذكرهم الذي يتمنونه في الشَّناعةِ والقباحةِ.


{أَمْ تَسْئَلُهُمْ} انتقالٌ من توبيخهم بما ذُكر من قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} إلى التَّوبيخِ بوجهٍ آخَر كأنَّه قيل أمْ يزعمُون أنَّك تسألهم عن أداء الرِّسالةِ {خَرْجاً} أي جُعْلاً فلأجل ذلك لا يُؤمنون بك وقوله تعالى: {فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ} أي رزقُه في الدُّنيا وثوابُه في الآخرةِ، تعليلٌ لنفيِ السُّؤالِ المستفادِ من الإنكارِ أي لا تسألهم ذلك فإنَّ ما رزقك اللَّهُ تعالى في الدُّنيا والعُقْبى خيرٌ لك من ذلكَ وفي التَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من تعليلِ الحكمِ وتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما لا يخفى. والخَرْجُ بإزاءِ الدَّخْلِ يقال لكلِّ ما تخرجه إلى غيرِك. والخَرَاجُ غالبٌ في الضَّريبةِ على الأرضِ وقيل الخَرْجُ ما تبرَّعت به والخراجُ ما لزمَك وقيل الخَرْجُ أخصُّ من الخَراجِ ففي النَّظمِ الكريمِ إشعارٌ بالكثرةِ واللزومِ. وقرئ: {خرجاً فخَرْجُ} و{خراجاً فخراج} {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} تقريرٌ لخيريَّةِ خراجهِ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تشهدُ العقول السَّليمةُ باستقامته ليس فيهِ شائبةُ اعوجاجٍ تُوهم اتَّهامَهم لك بوجهٍ من الوجوهِ ولقد ألزمَهم اللَّهُ عزَّ وعلا وأزاحَ عللهم في هذه الآياتِ حيث حصرَ أقسامَ ما يُؤدِّي إلى الإنكارِ والاتِّهامِ وبيَّن انتفاءَ ما عدا كراهتهم للحقِّ وقِلَّة فطنتهم.
{وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وُصفوا بذلك تشنيعاً لهم بما هُم عليهِ من الانهماكِ في الدُّنيا وزعمهم أنْ لا حياة إلاَّ الحياةُ الدُّنيا وإشعاراً بعلَّةِ الحُكمِ فإنَّ الإيمانَ بالآخرةِ وخوفَ ما فيها من الدَّواهي من أقوى الدَّواعي إلى طلبِ الحقِّ وسلوكِ سبيلهِ. {عَنِ الصراط} أي عن جنسِ الصِّراطِ {لناكبون} لعادلون فضلاً عن الصِّراطِ المستقيمِ الذي تدعُوهم إليه. والأوَّلُ أدلُّ على كمال ضلالهم وغايةِ غوايتهم لما أنَّه ينبىءُ عن كون ما ذهبُوا إليه ممَّا لا يُطلق عليه اسمُ الصِّراطِ ولو كان مُعوجّاً.
{وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ} أي قحطٍ وجدبٍ. {لَّلَجُّواْ} لتمادَوا {فِي طغيانهم} إفراطِهم في الكُفرِ والاستكبارِ وعداوةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنين {يَعْمَهُونَ} أي عامهينَ عن الهُدى. رُوي أنَّه لمَّا أسلمَ ثُمامةُ بنُ أثالٍ الحنفيُّ ولحقَ باليمامةِ ومنعَ الميرةَ عن أهلِ مكَّةَ وأخذَهُم اللَّهُ تعالى بالسِّنينَ حتى أكلُوا العِلْهِزَ، جاءَ أبُو سفيانَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ له: أنشُدكَ اللَّهَ والرَّحِمَ ألستْ تزعمُ أنَّك بُعثتَ رحمةً للعالمينَ قال: «بلى» فقال: قتلتَ الآباءَ بالسَّيفِ والأبناءَ بالجُوعِ. فنزلتْ والمعنى لو كشفنا عنهُم ما أصابَهم من القحطِ والهُزال برحمتنا إيَّاهم ووجدُوا الخصبَ لارتدُّوا إلى ما كانُوا عليه من الكُفرِ والاستكبارِ ولذهبَ عنهم هذا التملُّقُ والإبلاسُ وقد كان كذلكَ.


وقولُه تعالى: {وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب} استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ على مضمونِ الشَّرطيةِ. والمرادُ بالعذابِ ما نالهم يومَ بدرٍ من القتلِ والأسرِ وما أصابَهم من فنونِ العذابِ التي من جملتها القَحْطُ المذكور. واللاَّمُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي وبالله لقد أخذناهُم بالعذابِ {فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ} بذلك أي لم يخضعوا ولم يتذلَّلوا على أنَّه إمَّا استفعالٌ من الكَوْنِ لأنَّ الخاضع ينتقل من كونٍ إلى كونٍ، أو افتعالٌ من السُّكونِ قد أُشبعت فتحتُه كمنتزاحٍ في مُنتزحٍ. بل أقاموا على ما كانُوا عليه من العُتوِّ والاستكبارِ. وقوله تعالى: {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمضمون ما قبل، أي وليس من عادتهم التَّضرعُ إليه تعالى.
{حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو عذاب الآخرة كما يُنبىء عنه التَّهويلُ بفتح الباب والوصفُ بالشدَّةِ. وقرئ: {فتَّحنا} بالتَّشديدِ {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي متحيِّرون آيسون من كلِّ خيرٍ أي محناهم بكلِّ محنةٍ من القتل والأسر والجوع وغير ذلك فما رُؤي منهم لينُ مقادةٍ وتوجهٌ إلى الإسلامِ قط. وأمَّا ما أظهره أبُو سفيانَ فليس من الاستكانةِ له تعالى والتَّضرعِ إليه تعالى في شيءٍ وإنَّما هو نوعُ خُنُوعٍ إلى أنْ يتمَّ غرضُه، فحالُه كما قيل إذا جاعَ ضَغَا وإذا شبِعَ طَغَا. وأكثرُهم مستمرُّون على ذلك إلى أنْ يَرَوا عذابَ الآخرةِ فحينئذٍ يُبلسون. وقيل المرادُ بالبابِ الجوعُ فإنَّه أشدُّ وأعمُّ من القتلِ والأسرِ. والمعنى أخذناهُم أوَّلاً بما جرى عليهم يومَ بدرٍ من قتلِ صناديدِهم وأسرهِم، فما وُجد منهم تضرعٌ واستكانةٌ حتَّى فتحنا عليهم بابَ الجوعِ الذي هو أطمُّ وأتمُّ فأُبلِسُوا السَّاعة وخضعتْ رقابهم وجاءك أعتاهُم وأشدُّهم شكيمةً في العناد يستعطفُك، والوجهُ هو الأوَّلُ.
{وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار} لتشاهدُوا بها الآياتَ التَّنزيليةَ والتَّكوينيَّةَ {والأفئدة} لتتفكَّروا بها فيما تُشاهدونَهُ وتعتبروا اعتباراً لائقاً {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي شكراً قليلاً غيرَ معتدَ به تشكرون تلك النِّعمَ الجليلةَ لما أنَّ العُمدةَ في الشُّكرِ صرفُ تلك القُوى التي هي في أنفسِها نعمٌ باهرةٌ إلى ما خُلقتْ هي له وأنتُم تخلُّون بذلك إخلالاً عظيماً.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11